الأحد، 22 يونيو 2014

صعاليك الصّحافة

صعاليك الصّحافة






تأملت الصّحف اليومية في بلادي فلم أجد في معظمها سوى وُريقات متراكمة ملؤها حوادث القتل والذّبح والسلخ والاغتصاب واللّصوصية لا تكاد تجد فيها ما يبعث البسمة في النفوس أو يشيع الأمل في القلوب،كأنّي بهذه الصّحف أجزاء مقتطعة من روايات التراجيديا والجنس تطايرت أوراقها لتُجمع في مثل هذه الجرائد المتكاثرة كما تتكاثر البكتيريا من حول الطّيور النافقة في فصل الصّيف على رمال صحراء الرّبع الخالي.


أعجب ما في هذه الصّحف التي نقرؤها صباح كلّ يوم أنّها يُكذّب بعضها بعضا في المواضيع الجادّة سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية ،غير أنّها تتفق في غالبيتها على نشر أخبار الحوادث وفتح الباب للأوهام البالية ونسج السيناريوهات المشؤومة لهذه الحوادث ،فالحمد لله الذي جعل كثيرا منّا أمّيين لا يقرؤون ولا يكتبون فوقاهم بذلك شرّ قراءة مثل هذه التّرّهات وإلاّ أصبح عندئذ شعبنا مهووسا يتتبّع أنواع الجرائم وأخبار المحاكم التي تطبع حياتنا اليومية والتي تطلّ علينا من حيث أردنا أم لم نرد إن نحن تصفّحنا واحدة من  هذه الجرائد الرّائجة فنصبح بذلك كمن يشتري الهموم بدريهماته ليقتل في نفسه كلّ أمل وليمسح عن وجهه كلّ وميض ابتسامة أو بارقة سرور.

في الغرب يسمّون الصّحافة سلطُة رابعة بعد السّلطات الثلاث المعروفة لأنّها تصنع الرأي العام و توجّهه وتنطق على لسان الغلابى والفقراء والعمّال وشتّى فئات المجتمع التي ليس لها منبر سوى منبر الصّحافة والإعلام لتعبر به عن نفسها و لتضغط به على السّلطة السياسية لحلّ مشاكل المواطن، في بلاد الغرب يخاف المسؤول الصّحيفة أكثر ممّا يخاف المحكمة ويتوجّس خيفة من رجل الإعلام كما يخشى النّائب في البرلمان أو أكثر،في بلاد الغرب تصنع الصّحافة الحكام والرّؤساء أمّا في بلادنا فهم من يصنعونها ويستخدمونها إلاّ فيما ندر.

في بلادنا اشتغل الفاسدون في كلّ الميادين وملكوا حتى الصّحف والمجلاّت فجعلوها أصواتا ناطقة عنهم وأسواطا يجلدون بها ظهور من عاداهم، فالمسؤول عندنا إذا ساءه قول أو فعل أحدهم جنّد الأقلام المأجورة و من باعوا ضمائرهممن مُلاّك الصّحف لتلفيق التّهم وفبركة القصص ونسج الخيالات حول الشّخص المستهدف حتى تظهره لنا صحفنا "الموقّرة" بمظهر المجرم والفاسد والكاذب واللص وو... من صفات الرذيلة.
في بلادنا لا ينجح الصّحفي ذو الضّمير الحيّ واللسان الصّادق والقلم الدفّاق بكلمة الحق والنّاطق بقول الحقيقة ولا يتّسع مجال عمل وانتشار الصّحيفة إلّا إذا كانت مداهنة للسّاسة، ناشرة للأكاذيب لا يشتغل فيها إلاّ صعاليك الصحافة كما سمّاهم الأديب الكبير مصطفي صادق الرافعي، ولا تُوجّه صحيفة الصعاليك هذه إلاّ لطائفة من أنصاف القرّاء أو أنصاف الأمّيين كما يقول أيضا،وهنا يجتمع كذب الصّحيفة إلى ضعف القارئ فتصبح الرّذيلة مضاعفة وما أسرع أن تلد الآفتان آفة ثالثة هي انحطاط في الفكر وفساد في الذّوق وسقوط في حبائل الأوهام وابتعاد عن الحقيقة بل إلغاؤها لمصلحة الأكاذيب والخطايا العقلية.

في بلادنا شعار الصّحف الرّائجة اليوم مع حفظ الاستثناء: "نزداد انتشارا ما ازددنا كذبا وتلفيقا...وننال إشهارا ما ازددنا مداهنة ونفاقا" ، في بلادنا تُعدم الصّحف النُّخبوية في مهدها، وتغتال الأقلام الصّادقة في بداياتها، في بلادنا ديمقراطية الكلام موجودة وديمقراطية النّشر مفقودة، في بلادنا من شاء أن ينشئ صحيفة فليعمل بنصيحة الرّافعي: "لو أنّني أصدرت صحيفة لسمّيتها الأكاذيب، فمهما أكذب على النّاس فقد صدقت في الإسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النّفاق تحت عنوانه... ثمّ لايحرّر في جريدتي إلاّ صعاليك الصّحافة.



لا بديل عن الرّحيل



بقلم  فيصل عثمان



 

يمكنك مشاركة أصدقائكم هذا المقال عبر شباكات التواصل الإجتماعي.كل ما عليك هو النقر على رمز الشبكة أسفله

0 التعليقات:

إرسال تعليق